بقلم الفريق الدكتور سعد معن الموسوي رئيس خلية الاعلام الامني

صناعة الوحوش في الخطاب الرقمي
يطرح ديفيد ليفينغستون سميث في كتابه (صناعة الوحوش ) واحدة من أخطر الظواهر النفسية والاجتماعية حين يُجرّد الإنسان من إنسانيته وتُعاد صورته ككائن لا يستحق الاحترام أو التعاطف أو الحياة
هذه العملية التي تُعرف في علم النفس بنزع الإنسانية باتت اليوم أكثر وضوحا في فضاءات الإعلام الرقمي وخصوصا منصات التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى بيئة حاضنة للعنف الرمزي والتنميط والإقصاء
علم النفس الإعلامي لا يتعامل مع هذه الظاهرة بوصفها مجرد انحراف لغوي بل كمنظومة تُعيد تشكيل الإدراك والانفعال والسلوك الجمعي حيث تؤدي الصور النمطية المتكررة إلى بناء شعور بالرفض والخوف من الآخر وتُمهّد لصناعة خطاب تحقيري قد يبرر الإقصاء وأحيانا العنف
في هذا المناخ تتحوّل المنصات الرقمية إلى أدوات لصياغة وعي مُشوّه حيث يُعاد إنتاج صورة الآخر كهدف للسخرية أو الكراهية أو التجريد وهو ما يُفقد الخطاب الإعلامي قيمه التربوية ويحوّله إلى وسيلة للهدم بدل البناء.
تأتي هنا مسؤولية الإعلام الذي يجب أن يُعيد الاعتبار للكلمة والصورة والرمز لا كأدوات تأثير فقط بل كوسائل لصون كرامة الإنسان وتعزيز التفكير النقدي والتعايش السلمي .
الأديان السماوية أكدت على احترام الكرامة الإنسانية وضبط الكلمة وهذه المبادئ وإن لم تكن محور البحث إلا أنها تمثّل أساسا قيميا يُسند البناء النفسي والاجتماعي.
تشير دراسات علمية مثل Albert Bandura حول تبرير العنف ودراسة Gerbner and Gross حول نظرية الغرس إلى أن تكرار الصور السلبية يرسّخ مفاهيم خاطئة ويُعيد تشكيل الوعي بطريقة قد تؤدي إلى سلوك عدائي من دون شعور بالذنب
ما يطرحه سميث في كتابه يعيد تأكيد هذه النتائج بشكل فلسفي حيث يؤكد أن الوحش يُصنع بالكلمة والصورة وأحيانا بالصمت وهنا يصبح دور التربية الإعلامية جوهريا ليس فقط لحماية المتلقين بل لصون المجتمعات من الانزلاق في دوائر التجريد والإلغاء
ومن هنا تبدأ الحاجة العاجلة إلى خطاب رقمي يربّي على التماسك ، لا التفكك على النقد الواعي ، لا التشهير على قبول الاختلاف لا تسقيطه ،
وهذا ما يجب أن يكون في صلب أولويات الإعلام الأمني والتربوي في زمن تسارع الرسائل وتشوش النوايا
وهنا يبرز السؤال المركزي
هل نُدير الخطاب الرقمي ليبني الإنسان أم نتركه ليصنع الوحش؟



